الترجمة ودورها في التلاقح الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب
في هذا الصدد لا يفوتني أن أشير إلى أثر التراث اليوناني في نشأة بعض العلوم الإسلامية، ودور مسيحيي الشرق في ترجمته إلى العربية (إسحاق بن حنين215-298) هـ830/ - 910 م(، عيسى بن زرعة ( 943 /1008م )، يحيى بن عدي( 893 / 950م)، وفي الوقت نفسه لا أحد يستطيع أن يستهين بدور العلماء المسلمين في شرح وتفسير وتنقيح التراث اليوناني، واستفادة الحضارة الغربية من هذه الشروح. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور اليهود في الأندلس الإسلامية في نقل التراث العربي والإسلامي إلى الغرب المسيحي. لقد ترجم اليهود حسب الأستاذ أحمد شحلان على مدى قرون، كتباً فلسفيةً وعلميةً عربيةً إسلاميةً مشرقيةً ومغربيةً. ونذكر بعض أسماء المترجم لهم لنستدل بها على نوع النقول والامتداد الزمني الذي احتوته، وشساعة الحيز الجغرافي الذي جرت فيه وقائع هذه الترجمات. « فمن بين المترجم لهم قسطا بن لوقا وثابت بن قرة واسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق وأبو إسحاق البطروجي وأبو الحسن بن أبي الرجال والفرغاني وأبو إبراهيم بن يحيا الزرقلا وابن الهيثم والكندي والفارابي وابن سينا والرازي وأبو القاسم الزهراوي وإخوان الصفا وابن السيد البطليوسي وأبو القاسم أحمد بن السفار وأبو جعفر بن الأفلح الأشبيلي وابن باجة وابن طفيل والغزالي وابن رشد، وشكل ابن رشد محور أعمالهم إلى درجة أن الكثير من أصولها لم تصلنا باللغة العربية، وإنما وصلت في هذه الترجمات أو وصلتنا وقد كتبت عربية بحرف عبري .
ولعل هذا يكشف وعي الحضارة الغربية بأهمية ترجمة التراث العربي والإسلامي: وهنا لابد من الإشارة إلى ريموند رئيس أساقفة طليطلة الذي أسس مجمع المترجمين، وجعل على رأسه دومنيك كوند زلفي. وظهرت الترجمات الأولى وتلتها محاولات ترجمة ابن سينا ورسائل الكندي والفارابي. كما كان لجامعة باريس وتولوز ومونبلي وأكسفورد وجامعة بادو دور كبير في الترجمة.
فنحن اليوم في أمس الحاجة لترجمته هذا التراث إلى اللغة العربية وهو ما يقوم به الدكتور أحمد شحلان مشكورا حيث ترجم كتاب ابن رشد الضروري في السياسة" الذي ضاع أصله العربي وبقي في نسخته العبرية، ورد في مقدمة الكتاب على لسان المفكر المغربي محمد عبد الجابري لقد آن الأوان لتصحيح معرفتنا بابن رشد الذي أضعناه طويلا، لقد سبق أن ربطنا هذا الكتاب بنكبة ابن رشد عندما أتيح لنا أن نقرأه في ترجمته الإنجليزية المنقولة عن الترجمة العبرية بعد أن عم اليأس من العثور على الأصل العربي... إن هذا الكتاب الذي ضاع أصله وضاع اسمه الحقيقي، والذي نعيده إلى لغته الأصيلة، لغة الضاد حاملا اسمه الذي استخرجناه من متنه. هذا الاكتشاف الجديد لوجه آخر من وجوه عقلانية ابن رشد وأفقه الإصلاحيين ما كان ممكنا لولا الجهد الذي بذله الصديق الدكتور أحمد شحلان، أستاذ اللغة العبرية في كلية الآداب بالرباط والمتخصص في المؤلفات الرُّشدية في التراث العبري، ليس فقط في ترجمة الكتاب ترجمة أمينة بل أيضا في تصحيح قراءة المترجم اليهودي للنص العربي»
لقد اهتم القرآن الكريم بالأديان الأخرى وأرسى قواعد هذا العلم وأسسه العلمية؛ المبنية على ضرورة طلب العلم حيث كشف لنا القصص القرآني عن مادة معرفية غزيرة حول الأديان السابقة، بل أكثر من ذلك أفصح لنا عن أول تصنيف وتقسيم لأديان العالم استنادا إلى الوحي، مستعملا في ذلك مصطلح "أهل الكتاب" ليفرق كما قال الدكتور محمد خليفة حسن بين ثلاثة أصناف من الأديان « أديان لها كتب مقدسة، وأديان لها شبه كتاب، وأديان لا تملك كتبا مقدسة،» ولعل هذا يطرح أمامنا تحديا أخر يتمثل في البحث عن السبل الناجعة للتعامل مع قضية التعدد الديني ولكن بشكل إيجابي. فالجواب نجده في الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون: الآية 6] فعلى امتداد التاريخ الإسلامي، وكما أشرنا سابقا، اعترف المجتمع الإسلامي بالتعدد، وآمن بالتعايش السلمي بين مختلف الجماعات الدينية المختلفة. ولعل "صحيفة المدينة" كانت بمثابة أول دستور أرسى قوانين وسبل التعامل مع أهل الذمة، وبذلك يمكن الجزم كما يرى الأستاذ دين محمد محمد ميرا أنه« لم يشهد التاريخ الإنساني مجتمعا اهتم في دستوره وقوانينه بقضية التعدد والتعايش وبيان الحقوق والواجبات في هذا المجال مثل المجتمع الإسلامي، وتم ذلك بتوجيه من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشَّريفة.»
جملة القول إنَّ الحاجة أصبحت ملحة لتدريس هذا العلم والتعريف به وإعادة الاعتبار له، فلن نكون مغالين إذا اعتبرناه المخرج الوحيد المتاح أمام البشرية للتعاون المشترك من أجل إيجاد نظام عالمي جديد يستند إلى القيم الأخلاقية العليا المشتركة فيما بينها. إنَّ علم الأديان ليس ترفا فكريا أو خيارا فرديا، فهو يعبر عن حاجةٍ إنسانيةٍ ملحةٍ ومستعجلةٍ تتطلبها التحولات التي يشهدها العالم في هذه المرحلة الدَّقيقة والحرجة من تاريخ البشرية، خاصة في ظل اتساع رقعة التوتر واندلاع النزاعات الإيديولوجية وتزايد مخاطر الفكر الاستئصالي. فعلم الأديان وما يرتبط به من حوار الحضارات والثقافات خيار استراتيجي. وهو السبيل الأوحد لمواجهة كل أشكال الإقصاء وكل أنواع الإرهاب، ولمقاومة خطاب الكراهية الذي بدأ يستشري كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي.
قائمة المراجع:
- أحمد شحلان، التراث العبري اليهودي في الغرب، التسامح الحق منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط. الطبعة الأولى 2006 .
- أحمد شحلان، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى ، 1998.
- دين محمد محمد ميرا في علم الدين المقارن مقالات في المنهج، دار البصائر، القاهرة 2009.
رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، المجلد الرابع. دار بيروت للطباعة والنشر بيروت.
- كريمة نور عيساوي التوراة من التدوين إلى النقد دراسة تطبيقية في سفر التكوين لقضايا الخلق والخطيئة والطوفان وبرج بابل، المركز الأكاديمي للأبحاث، بيروت، الطبعة الأولى 2020.
- محمد خليفة حسن تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، رؤية للنشر، القاهرة، 2016.
- Jordan, Loues H.Comparative Religon : its genesis and growth (Edinbugh.1905) p 63 Sharpe Eric J .comparative Religion Ahistory (Charles Scribers soons New york1975)